سورة الحج - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


السطو: القهر. وقال ابن عيسى: السطوة إظهار ما يهول للإخافة.
{ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير}.
لما تقدم ذكر الفصل بين الكفار والمؤمنين يوم القيامة أعقب تعالى أنه عالم بجميع {ما في السماء والأرض} فلا تخفى عليه أعمالكم و{إن ذلك في كتاب} قيل: هو أم الكتاب الذي كتبه الله قبل خلق السموات والأرض، كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ. والإشارة بقوله {إن ذلك على الله يسير} قيل: إلى الحكم السابق، والظاهر أنه إشارة إلى حصر المخلوقات تحت علمه وإحاطته. وقال الزمخشري: ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السموات والأرض وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه، والإحاط بذلك وإثباته وحفظه عليه يسير لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم انتهى. وفي قوله لأن العالم الذات فيه دسيسة الاعتزال لأن من مذهبهم نفي الصفات فهو عالم لذاته لا يعلم عندهم.
{ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً} أي حجة وبرهاناً سماوياً من جهة الوحي والسمع {وما ليس لهم به علم} أي دليل عقلي ضروري أو غيره. {وما للظالمين} أي المجاوزين الحد في عبادة ما لا يمكن عبادته {من نصير} ينصرهم فيما ذهبوا إليه أو إذا حل بهم العذاب.
{وإذا تتلى عليهم آياتنا} أي يتلوه الرسول أو غيره {آياتنا} الواضحة في رفض آلهتهم ودعائهم إلى توحيد الله وعبادته {تعرف في وجوه الذين كفروا} أي الذين ستروا الحق وغطوه وهو واضح بين والمنكر مصدر بمعنى الإنكار. ونبه على موجب المنكر وهو الكفر وناب الظاهر مناب المضمر كأنه قيل: تعرف في وجوههم لكنه نبه على العلة الموجبة لظهور المنكر في وجوههم، والمنكر المساءة والتجهم والبسور والبطش الدال ذلك كله على سوء المعتقد وخبث السريرة، لأن الوجه يظهر فيه الترح والفرح اللذان محلهما القلب.
{يكادون يسطون} أي هم دهرهم بهذه الصفة فهم يقاربون ذلك طول زمانهم، وإن كان قد وقع منهم سطو ببعض الصحابة في شاذ من الأوقات. قال ابن عباس: {يسطون} يبسطون إليهم. وقال محمد بن كعب: يقعون بهم. وقال الضحاك: يأخذونهم أخذاً باليد والمعنى واحد. وقرأ عيسى بن عمر يعرف مبنياً للمفعول المنكر ووقع {قل} هل أنبئكم {بشر من ذلكم} وعيد وتقريع والإشارة إلى غيظهم على التالين وسطوهم عليهم، أو إلى ما أصابهم من الكراهة والبسور بسبب ما تلي عليهم.


الذباب: الحيوان المعروف يجمع على ذباب بكسر الذال وضمها، وعلى ذبّ والمَذبَّة ما يطرد به الذباب، وذباب السيف طرفه والعين إنسانها، وأسنان الإبل. سلبت الشيء: اختطفته بسرعة. استنقذ: استفعل بمعنى أفعل أي أنقذ نحو أبل واستبل.
{يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}.
لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركون عبادة من خلقهم، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقل منه، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله {إن الذين تدعون} بتاء الخطاب. وقيل: خطاب للمؤمنين أراد الله أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون {تدعون} خطاباً لغيرهم الكفار عابدي غير الله. وقيل: الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير الله، فإنه يظهر له قبح ذلك. و{ضُرب} مبني للمفعول، والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى، ضرب مثلاً لما يعبد من دونه أي بين شبهاً لكم ولمعبودكم. وقيل: ضارب المثل هم الكفار، جعلوا مثلاً لله تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال: ليس ههنا {مثل} وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلاً. وقيل: هو {مثل} من حيث المعنى لأنه {ضرب مثل} من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً.
وقال الزمخشري: فإن قلت: الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى.
وقرأ الجمهور {تدعون} بالتاء. وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل. وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنياً للمفعول. وقال الزمخشري {لن} أخت لا في نفي المستقبل إلاّ أن تنفيه نفياً مؤكداً، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال: محال أن يخلقوا انتهى.
وهذا القول الذي قاله في {لن} هو المنقول عنه أن {لن} للنفي على التأييد، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل {لن} مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله {أفمن يخلق كمن لا يخلق} كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح، والاستدلال عليه مذكور في النحو. وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث إنّ الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب {الذباب} وعدم استنقاذ شيء مما {يسلبهم} وكان الذباب كثيراً عند العرب، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك. وعن ابن عباس: كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وموضع {ولو اجتمعوا له} قال الزمخشري: نصب على الحال كأنه قال مستحيل: أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه، وتعاونهم عليه انتهى.
وتقدم لنا الكلام على نظير {ولو} هذه، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة، كأنه قيل {لن يخلقوا ذباباً} على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك.
{ضعف الطالب والمطلوب} قال ابن عباس: الصنم والذباب، أي ينبغي أن يكون الصنم طالباً لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان. وقيل {المطلوب} الآلهة و{الطالب} الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة. وقال الضحاك: العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده. وقال الزمخشري: وقوله {ضعف الطالب والمطلوب} كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لأن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب، وذاك مغلوب والظاهر أنه إخبار بضعف الطالب والمطلوب. وقيل: معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب
. {ما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوه حق معرفته حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة {الله يصطفي} الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة {أأنزل عليه الذكر من بيننا} الآية، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله عليهم بأن رسله ملائكة وبشر، ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شيء وإليه مرجع الأمور كلها.
ولما ذكر تعالى أنه اصطفى رسلاً من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف وهو الصلاة قيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بكوع وسجود واتفقوا على مشروعية السجود في آخر آية
{ألم تر أن الله يسجد له} وأما في هذه الآية فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا يسجد فيها، ومذهب الشافعي وأحمد أنه يسجد فيها وبه قال عمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس {واعبدوا ربكم} أي افردوه بالعبادة {وافعلوا الخير} قال ابن عباس: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق، ويظهر في هذا الترتيب أنهم أمروا أولاً بالصلاة وهي نوع من العبادة، وثانياً بالعبادة وهي نوع من فعل الخير، وثالثاً بفعل الخير وهو أعم من العبادة فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم.
{وجاهدوا في الله} أمر بالجهاد في دين الله وإعزاز كلمته يشمل جهاد الكفار والمبتدعة وجهاد النفس. وقيل: أمر بجهاد الكفار خاصة {حق جهاده} أي استفرغوا جهدكم وطاقتكم في ذلك، وأضاف الجهاد إليه تعالى لما كان مختصاً بالله من حيث هو مفعول لوجهه ومن أجله، فالإضافة تكون بأدنى ملابسة. قال الزمخشري: ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
ويوم شهدناه سليماً وعامراً ***
يعني بالظرف الجار والمجرور، كأنه كان الأصل حق جهاد فيه فاتسع بأن حذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى الضمير. و{حق جهاده} من باب هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقاً وعالم جداً. وعن مجاهد والكلبي أنه منسوخ بقوله {فاتقوا الله ما استطعتم} {هو اجتباكم} أي اختاركم لتحمل تكليفاته وفي قوله {هو} تفخيم واختصاص، أي هو لا غيره. {من حرج} من تضييق بل هي حنيفية سمحة ليس فيها تشديد بني إسرائيل بل شرع فيها التوبة والكفارات والرخص. وانتصب {ملة أبيكم} بفعل محذوف، وقدره ابن عطية جعلها {ملة} وقال الزمخشري: نصب الملة بمضمون ما تقدّمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أو على الاختصاص أي أعني بالدين {ملة أبيكم} كقوله: الحمد لله الحميد، وقال الحوفي وأبو البقاء: اتبعوا ملة إبراهيم. وقال الفراء: هو نصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قيل كلمة {أبيكم} بالإضافة إلى أبيه الرسول، وأمة الرسول في حكم أولاده فصار أباً لأمته بهذه الوساطة. وقيل: لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب طلب الأكثر فأضيف إليهم. وجاء قوله {ملة} {إبراهيم} باعتبار عبادة الله وترك الأوثان وهو المسوق له الآيات المتقدمة، فلا يدل ذلك على الاتباع في تفاصيل الشرائع.
والظاهر أن الضمير في {هو سماكم} عائد على {إبراهيم} وهو أقرب مذكور ولكل نبيّ دعوة مستجابة ودعا إبراهيم فقال {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} فاستجاب الله له فجعلها أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وقاله ابن زيد والحسن. وقيل: يعود {هو} إلى الله وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك. وعن ابن عباس: إن الله {سماكم المسلمين من قبل} أي في كل الكتب {وفي هذا} أي القرآن، ويدل على أن الضمير لله قراءة أبيّ الله سماكم.
قال ابن عطية: وهذه اللفظة يعني قوله {وفي هذا} تضعيف قول من قال الضمير لإبراهيم، ولا يتوجه إلاّ على تقدير محذوف من الكلام مستأنف انتهى. وتقدير المحذوف وسميتم في هذا القرآن المسلمين، والمعنى أنه فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم.
{ليكون الرسول شهيداً عليكم} أنه قد بلغكم {وتكونوا شهداء على الناس} بأن الرسل قد بلغتهم، وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلاّ منه فهو خير مولى وناصر. وعن قتادة أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلاّ نبي. قيل للنبي: أنت شهيد على أمتك. وقيل له: ليس عليك حرج. وقيل له: سل تعط. وقيل: لهذه الأمة: {وتكونوا شهداء على الناس} وقيل لهم {ما جعل عليكم في الدين من حرج} وقيل لهم {ادعوني أستجب لكم} {واعتصموا} قال ابن عباس سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره. وقال الحسن تمسكوا بدين الله.

1 | 2 | 3 | 4